الماسوشية السياسية
بقلم: محمود عبدالسلام علي
لماذا يسوغ الناس الظلم المجتمعي في أحياناً كثيرة , بل و أحياناً يقومون بتبريره و صبغته بما يشبع نشوتهم بإستعذاب الألم و يجدون في ذلك عدلاً و قصاصاً و إنصافاً من جانب محدود في عقليتهم , لماذا يقومون بلوم الضحية و يتناسون جلادها ... ولماذا تتخلى مجتمعات محرومة بأكملها عن نزعة الاحتجاج والاعتراض، وتدمن بدلاً عن ذلك ماسوشيتها الاجتماعية، أي أن يستعذب مواطنوها لذةً مَرَضية تنجم عن تنكيلهم بأنفسهم جسدياً ونفسياً نتيجة دوافع لاشعورية دفينة ناتجة عن تراكمات تاريخية أو سياسية أو إدمان القمع المتوارث عبر أجيال كثيرة.
لمحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، ابتدع عالم النفس الكندي "ميلفن ليرنر" Melvin Lerner في ستينات القرن الماضي، نظريةً مشوقة غطت مساحة تفسيرية واسعة من السلوك الاجتماعي عبر بحوثها المختبرية والميدانية الممتدة لحد اليوم، صارت تُعرف بنظرية "الاعتقاد بعدالة العالم" Belief in a Just World Theory. يقول "ليرنر" إن الناس مدفوعون (عند مستوى ما قبل الشعور Subconscious) للاعتقاد "واهمين" بأنهم يحصلون على ما يستحقونه، ويستحقون ما يحصلون عليه في عموم حياتهم، إذ لا بد لهذا العالم أن يكون "عادلاً"، وإلا كيف يمكن تحمل كل هذه المظالم دون أن يكون هناك وهمٌ بأنها (أي المظالم) وجه مستتر من أوجه العدل الذي يكمن خلف كل الأحداث، والذي سيتحقق عاجلاً (في الدنيا) أو آجلاً (في الآخرة). إنه وهم تكيفي يجعل الناس أقل توتراً وأكثر رضى عن حياتهم "البائسة". فالفقراء صاروا فقراء لأنهم "كسالى" لا يبذلون أقصى جهودهم في المطالبة بحقوقهم المشروعة، والتفاوت الاجتماعي ليس إلا نتاجاً "معقولاً" لفروق فردية في الذكاء والقدرات، والضحية المغتصبة جنسياً "تستحق" ما لحق بها لأنها سارت لوحدها في الطريق ولم تكن محتشمة بما فيه الكفاية!! وتخلص النظرية إلى الاستنتاج بأن هذا الاعتقاد (الوهم) بعدالة العالم هو أحد عوامل التعطيل السيكولوجي للحراك البشري الجمعي الإيجابي نحو الاحتجاج والتغيير والإصلاح.
يقول اتين لابويسيه في مقاله عن العبوديه المختارة: “الشعوب إذن هى التي تترك القيود تكبلها، أو قل إنها تكبل نفسها بنفسها، ما دام خلاصها مرهونًا بالكف عن خدمته، الشعب هو الذى يقهر نفسه بنفسه… هو الذي ملك الخيار بين الرق والعتق؛ فترك الخلاص وأخذ الغل”.
فلا نتعجب عندما نسمع أناس في الشارع يقولون جمل مثل تلك " والله إحنا شعب ميجيش غير بضرب الجزمة " , "إحنا شعب لازمنا فرعون يدينا فوق دماغنا " أو في أقوال أخري "البلد دي محتاجة واحد (عسكري) عشان يعرف يمشيها صح و يربي شعبها " .... إلي آخره من تلك الجمل المستفزة التي نسمعها في حياتنا اليومية , تلك الجمل ما هي إلا نتيجة تراكمات قمعية و ممارسات سياسية مورست علي مدار ستين عاماً من الحكم العسكري علي الشعب و إقناعهم بالوهم و لكن هذه الممارسات هل قد تتأثر بها النخب السياسية المعارضة فتخور عزائمهم فتهوي مبادئهم ليخضعوا تحت سوط الديكتاتور بل و يستلذون الألم !!!!
سطعت تلك الفكرة في ذهني عندما بدأ الحديث عن الإنتخابات البرلمانية المقبلة لأجد من يدعون بإنهم أحزاباً مدنية تسعي إلي مدنية الدولة و تحقيق أهداف الثورة لا مانع لديها من التحالف مع فلول الثورة أو مع دوائر المصالح القديمة ولا سبيل لها للوصول إلي عبر تلك التحالفات المشينة و بالرغم من أن تلك الأحزاب بعضها ينتقد أداء الحكومة و رافضة لشكل الدولة العسكري و رافضة أيضاً لقانون الإنتخابات البرلمانية القادمة , و لكن يبدو أن ماسوشيتهم أجبرتهم علي إتباع مبدأ "إذ لم تستطع مقاومة الإغتصاب , فإستمتع به " و يبررون ذلك عبر وهم زائف مدعين أنه لا يوجد سبيلاً لمعارضة النظام إلا عن طريق الدخول في عبائته و إذا سئلتهم عن مدي ثقتك بهذا النظام في تحقيق نظام ديموقراطي سليم , أجابك بردود واهية لا تعبر عن قناعاته أو مخاوفه الحقيقية , و إذا سألته عن برنامجه الإنتخابي الذي بناءاً عليه سيخوض تلك التحالفات و هل إذا كانت هذه التحالفات متوافقة فكرياً مع البرنامج الإنتخابي إذا وجد أو مع أيدولوجية الحزب ... أجابوك بالصمت الرهيب خشية من أن تتعري أمامك سوءاتهم أمام عينك بالرغم إنه لا يدرك إنها بالفعل كشفت .. و منهم البعض من يجادل و يبرر فتجد أن إستعذابه للألم هو الذي يتحدث و نشوته بالإضطهاد , فهو يعلم جيداً إنه في نظام ديكتاتوري و آثر أن يستمتع بتلك الديكتاتورية بل و يصبغ عليها صبغته ليكسوها بالمبررات ليستمتع بالإغتصاب أكثر فأكثر .
فهذا يذكرني كثيراً بالإفيه الشهير للفنان "حسن عابدين" في فيلم "درب الهوي" عندما قال : " أنا عاوز واحدة تهزقني .. تهزقني .. تهزقني " فما اقرب المشهدان .. فالأحزاب تجد الآن نشوة و لذة في إحساس القمع و إحساسها بالمعارضة الشكلية كي ترضي نفسها و كينونتها أمام العامة
رسالة إلي تلك الأحزاب .. إذا كان رب البيت بالدف ضارب فشيمة أهل البيت الرقص
. لن يحدث إصلاح حقيقي ما لم يتماثل الشعب بما فيه من أحزاب و قادة رأي من هذا الداء، وينفطم عن أبوة الدولة وهيمنتها، التي تخوِّل لأيّة ممارسة لا قانونية طالما أنت ومالك لأبيك.
من ردم الظلام علي جثة مستقبل الأجيال القادمة , أن نعلمهم إن أفضل طرق مقاومة الإغتصاب هو الإستمتاع به عبر تلك الشكليات المسماة بالمسار الديموقراطي المخضب بالدماء و المقيد بأغلال و أصفاد القمع و القهر .. إنكم تدعون إلى نحر الأمل. فالحرية حق مستطاب، لكم أن تناضلوا من أجل وطن فسيح لا يضيق بأهله تشارك في سيادته، مبنيًا على أسس تكفل لكل المواطنين الحرية والأمن، ويحقق متطلبات العدالة وطبيعة الاختلاف، أن تكون فيه إنسانًا كاملًا لا ملفًا ولا رقمًا ولا كومبارساً يتلذذ بآلام الإغتصاب حتي يرضي رغبته في الوصول إلي النشوة المرتجاة و هي المناصب الشكلية فوق جثثاً نسيتموها , أن تكون العلاقة بين الشعب والسلطة علاقة صحية تقوم على مساءلة المسؤولين فلا يستقيم أن نسمّيه مسؤولاً ما لم يقبل المساءلة، علاقة لا تضللها ماسوشية سياسية تعتمد علي إيهام الناس بأن تلك الآلام التي يعانون منها يجب أن يصبروا عليها لأجل مصلحة الدولة و الوطن و ما هي إلا تصرف سادي ديكتاتوري من الدولة إتجاه مواطنيها الذي بطبيعة الحال إنتشر بيننا تلك الإنحرافات النفسية و أصبحنا شعباً يستعذب الآلام.
===========================================
للتواصل مع الكاتب علي صفحته الرسمية علي الفيس بوك :
للتواصل مع الكاتب علي حسابه الشخصي علي الفيس بوك :
للتواصل مع الكاتب علي تويتر :
للتواصل مع الكاتب علي إيميله و مراسلته :
Ma7moud.3bdelsalam@gmail.com




